الأربعاء، 23 ديسمبر 2009

الكوميديا السوداء ـ قصة

الكوميديا السوداء



جاءته ذات لحظة عابرة في فضاءت التأمل وهي تجر" عناقيد الغضب " في كلماتها .. وبرفقتها قريب صغير احتج على" شعار جداري " كتبه صبية الحارة المتطفلون .. بأنها وبأنه متحابان .
سألته مستنكرة :
ـ صحيح في إشي بيني وبينك ؟
كانت تضع يدها بطريقة " التفافية " لتخفي جانب فمها المقابل لقريبها الغر .. عضت على شفتها السفلى بعد سؤالها له .. تعبيراً عن دعوتها له بعدم الاعتراف .. واستوقفته هذه الالتفاتة " المصيرية " .. إذ أن هذا المشهد لهو دليل صارخ في برية الروح على أنه " في إشي بينها وبينه " .. لكنه استجاب لرغبتها .. فقال :
ـ لأ .. ما في إشي .
فأردفت .. بعد أن أفرجت عن شفتها وأزالت يدها عن جانب فمها :
ـ يعاد شو هذا اللي مكتوب عَ الحيط ؟
قال باستغراب :
ـ شو مكتوب ؟
قالت بابتسامة :
ـ بسام بحب صفية .
قال والدهشة التي يشوبها الفرح ترتسم على تضاريس وجهه :
ـ مين اللي كاتبه ؟
قالت وعلامات الاطمئنان على وجهها بعد حصولها على شهادة البراءة :
ـ كنهم أولاد الحارة اللي كتبوا .

قال بابتسامة :
ـ يا عيبهم .
أشارت إلى قريبها الصغير :
ـ شفت ما في إشي بيني وبينه .. يالله نروّح .
غادروه بعد أن تركوا ذهولاً يحتله حتى أدق تفاصيله .. وبانفلاتة غزال .. استيقظ وهو يردد :
ـ في إشي بيني وبينك .. كيف ما في إشي .. ؟
أدرك الآن فقط أن جميع قصائده التي خطها في شتاءات الانتظار المريرة ما ضلَّت طريقها .. بل حفرت في صخرة قلبها أخاديد التواجد .. والذي ما جاء إلا بعد عذاب أذاقه مرارة البحث عنها في السهر والقلق واتساع مساحة الحزن في داخله .
إنه الحب إذن .. الحب الذي أرادته أن يخفيه عن قريبها .. ليبقى السر منتشراً في مساحة قلبيهما فقط .. وما قيمة ذلك بعد أن انتشر بين صبية الحارة .. لكن الأهم من هذا هو إشارتها بحبها له .. وإنه يوجد ما يوحد بين قلبيهما ..
جاءته في المساء التالي برفقة أمها .. كي تستعير كتاب المطالعة بغية إعداد موضوعاً للمدرسة .. عرض مساعدتها .. فادَّعت أنها تفضّل الاعتماد على نفسها .. أعادت الكتاب في اليوم التالي مع أمها التي لا تعرف القراءة .. أعادته بعد أن سطرت صفحة جديدة على الصفحات البيضاء في نهاية الكتاب .. حـمَّلت مساحتها اعترافاً صريحاً بحبها له .. وأنها تعيشه وتقرأه وتتهجاه ..

انتفض في ضجيج الأصوات المتلاحقة .. صرخ بملء أعماقه .. آه يا صفية .. يا نشيدي الصارخ في برية الروح .. يا عمراً تلكأ على حواف الجدران .. وأرصفة الطرقات الصعبة .. آه يا نشيدي الذي سرقوه من شفتي بعد ما أزهرت أوراقه .. فغزا الشيب اسوداد الشعر .. أين أنت الآن .. ليتك الآن معي .. لتطفئي مرارة هذا الوجع المتأجج .. أو تشعلي معطف هذا المساء المعفر ببرد السنين .. والذي ما انفك يشد الروح لتلك المساءات الحالمة والمليئة بوجع البوح ومرارة الاعترافات .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق