الأربعاء، 16 ديسمبر 2009

ما يُشـبه التـوقيع ـ سيرة



دفتر سجل المواليد

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ



ذات ليلة ..

وكانت من ليالي آذار الذي يمتد من اليوم التاسع والعشرين من آذار لأعوام خلت .. لبيت في قرية تنام على أكتاف الجبال المطلة على مرج ابن عامر .. كان بيتنا وكانت اليامون .. وكانتني .. صارخاً موقظاً الجهات التي تلفعني بأمل حالمٍ لأسرة ثالثها أنا .


تقول الرواية

" لكل شخص من اسمه نصيب "


هذا " الأنا " الذي " عرفته منذ أن تشكل في لغة أرضية .. وأفهمه جيداً كما ينبغي .. وأتعاطى معه لغات القهر والتعب اليومي .. حين يستفزني من ذاكرتي .. أجده يعيدني إلى مرجعية صامتة .. كي نرسم معا خطانا بوضوح .. دون إضاعتها من تحت أقدامنا .. نشأنا وشببنا وحملنا نشيد الياسمين على ضفاف الماء الذي نشتهي .. وقرأنا معاً صدى الصوت عالياً حيث يفيض .. ليستمر بصراخه العفوي .. فتشابكنا في لغة الحلم .. لعلنا نستيقظ على شيء ذات صباح ..
ـ أجده ؟ .. وجدته .
لكنه يفر صباحاً إلى حقول اللوز .. ليعود ـ كعادته ـ الى مرفأ الذاكرة في مساء من لهاث وشجن .. ونواصل البوح .. ليواصل المحراث طريقه .. فنتجدد معاً .. لكي لا نهترئ "
باختصار غير شديد .. حملت اسمي .. وسرت في الاتجاهات التي تعبرني .. فكنت كما أنا الآن .. أحلم بمشهد مغاير لما هو كائن .. وأبحث عن فضاءات أكثر دفئاً ورفقاً بالإنسان .. لعل أطفالاً بلون الفراش .. يصلون إلى الصدور بعد اللحظة المهاجرة ..غير أني لم أزل في غفوتي .. أصارع ما خلفته الريح من بقاياي .. أكتظ بصراخ عفوي .. يهمس لي .. يتورد حين أحضر محفل الأرواح .. فتنكمش أصابعي حين أتدثر ببرد الليل .. وتمد خيوطها في العتمة .. ربما لأن الطريق لم تطل من النافذة بعد .. ربما لأن المسافة التي تتسع .. تقتل الدهشة في الدم .. ربما .. ربما ..

سيرة البداية وتكوين الحرف

كانت البداية في صفحة النهر الذي مر في المكان .. ولم أكن أتوارى من خشية ما .. فتحت يديّ لمجراه .. فعادني كما لو كنت صاحبه في فراش التوجع .. وراقني كما لوكان مشتهاي .. قرأت فيه أناشيد المدرسة .. حيث متعة الانتباه .. توردت وتباهت حين امتدت الى رفوف الكتب الموروثة يداي .. رغم السن المبكرة التي حملتها آنذاك .. قرأت بعض حكايات المنفلوطي وأضع خطاً تحت ( تحت ظلال الزيزفون ) .. وخطين تحت ( الشاعر ) حيث تمنيت لو كان أنا .. هي صورة ملحة يستحم فيها الخيال الصغير .. تماما كما المدينة الفاضلة في رؤية ( ستيفن ) صاحب ( مجدولين ) .. و(ماجدولين ) كانت تقف على بوابة الدار العتيقة .. رسمتُ فيها الشاعر .. وبنيتُ تضاريس مدينتي الفاضلة بين عينيها الواسعتين .. فعرفت لغة العبور المبكر إلى منبع النهر .. ورغم الستة عشر عاماً التي لم أتجاوزها آنذاك .. كنت أغمض عينيّ وأتأمل مدينة فاضلة أبنيها .. وأجعلها مسكناً لكل المعذبين والمشردين في الأرض .. لكنني :

بنيت للشعر أبياتاً مشيدةً ..... وما بنيت به بيتاً من القصبِ

تعرفت إلى وجدان محمود درويش .. وفدوى طوقان وسميح القاسم .. وتوفيق زياد .. لما لهؤلاء من صفة الرمز الذي يتصاعد في أفواه الحاضر القديم آنذاك .. ولكني كنت أقرأ في وجدان الصورة التي كانت .. ولا تزال .. صورة الحاضر القديم المتجدد دائما .. حيث تنام المصابيح على ضفة العتمة .. وحيث السنابل التي تدوسها أقدام الغزاة القادمين من الشاطئ الآخر للبحر .. فعرفت نكهة البوح .. ثم ارتفاع الصوت .. ثم صرخة القصيدة التي خرجت في مخاض الولادة الأولى .. هي البداية التي كانت قبل ميلاد القصيدة .. ذلك أن القصيدة ولدت مع بداية البوح .. ولم تكن بداية الشعر .. ذلك أن الشاعر فيّ كان على قيد الحياة قبل ميلادها .. هناك .. حيث اتهمت نفسي ووجدتها وأنا أتناثر بين يديّ .. وأسألها .. في حضرة النهر .. من أنا ؟ ومن أين تجيء الفراشات إلى حقول الزهر ؟ وكيف أراني والمسافة بيني وبيني ؟ فانتشر السؤال .. وكان لي ضجيجه الملتهب في مقهى الجفون .. عراني ذات مساء .. فدخلتُ عالمه السحري .. ووجدتني أصرخ في وجه امرأة تناثرت على يديها .. ورأتني .. وابتسمت بلا مبالاة .. فرأيت الخيول تتراكض إلى منبع النهر .. فصرت الوارث لرحيق الكتب المزجوجة على رفوف مغبرّة .. وحين تراكضت خطواتي .. رأيتني أمام أساتذتي الذين أماطوا ما تناثر في طريق جدول صغير .. رفدوه بعطائهم المشهود بما تيسر من حضور الماء .. ليكبر .. ويتسع المجرى نحو المصب في النهر . هي البداية .. ووجه المرأة التي تناثرت على يديها .. ورأتني .. وابتسمت بلا مبالاة .. صار وجه حبيبتي الذي ابتسم ملء حدقتين واسعتين .. على مرمى وردة من القلب .. ثم غاب إلى الأبد .. لكل إنسان ـ بلا شك ـ محطات توقّفَ فيها أمام حضرته .. وانطلقَ متابعاً الخطى للمسير .. ويتميز الأديب عن غيره في توظيف هذه المحطات وفق رؤية تنسجم مع كافة المعطيات التي تدثّر بها في مرحلة تأمله تلك .. ولم أكن أملك الخيار حين اقتحَمَت مساحة حياتي عناوين استشرفتُ من خلالها تفاصيلي القادمة .. وكان أبرزها مصادرة الحرية الجسدية في أقبية وزنازين الاحتلال الإسرائيلي عام 1984م ..وقبلها عناوين أخرى ، ساهمت في بلورة الانطباعات .. منها صورة جنود الاحتلال وآلياته وهي تدخل محتلةً بلدتي الصغيرة عام 1967م .. ولم أكن حينذاك أملك سوى عينين استطاعتا رؤية الأزهار التي داستها أقدام الغزاة .. وكنت طفلاً غضاً لا يعرف الوقت ولا المكان .. لكنه يعرف التفاصيل التي تختزنها الذاكرة .. ليعبر منها إلى نشيد قادم يجدده ليصحو من نومة الصغار ..
وتبع ذلك عناوين أخرى .. غربة المكان .. حين تنفست هواءً عربياً آخر في أمكنة لم تكن حيث نشأتُ وترعرعتُ .. ولكن الحنين الآسر يفيض بغربة مؤرقة للذاكرة .. فكان لتلك الفـترة أثرها البالغ على أنفاس القصيدة التي تولد في اشتياق المغترب عن تراب وطنه ..ثم الانتفاضة كعنوان بارز في تخطي حدود التسليم المألوف نحو التمرد في صوت بات يدرك صحة ارتفاعه وتطاول قامته .. وأيضاً .. رحيل الاحتلال .. على اعتبار ذلك .. والاستظلال تحت أجنحة أبناء الوطن .. لتولد مخاضات جديدة النكهة .. تحاور ذاتها وتحاول اجتياز المبهم فيها ..
تلك بعض العناوين لمراحل أثرَت التجربة الحياتية بجانبيها الأدبي والفكري في مسيرة انفلاتي في نفسي .. وكان الأبرز في تلك العناوين ـ ولا شك ـ تجربة السجن ومخاضات الولادة فيه ..


عن سيرة السجن

لم تكن مشاغبة القلم في رسم خطوطه المنتمية للوطن هي السبب الوحيد لاستنشاق رطوبة جدران الزنازين .. بل تعددت الأسباب والسجن واحد .. حيث وجدتني ذات صباح من شجن .. أعرف الطريق إلى الذاكرة .. فالتحقت بركب المارين إلى الشمس .. وحين تعريت بفعل فاعل .. كنت على موعد مع منتصف الليل حين جاءوا لاعتقالي :
دقَّت الساعة يا أمي ،تعالي ودّعينيوانثري صفصاف قلبكْفي ثنيّات يقـيني هاهم الآن أتونييصحبونيحين دقوا باب أحلامي فهاتي وردك الداميوقومي زينيني...


عن سيرة الخطى

الثورة بشكلها المتسع هي صورة أصحاب النفس الطويل في المواصلة للعبور إلى الوطن .. هؤلاء الذين يدركون قيمة الوقت وماهيته حين يتمسكون بنسيج المستقبـل ولا يركنون للنعاس..ذلك أنهم من مواليد الوعد والعمل.. وهم الذين جاءوا من صعوبة اللحظة في زمان الحلم والتحمل ..ومن أصعب الأيام يولد يوم الفرح .. وفي خصوصية الثورة حين تكون لأديب وشاعر .. يقف على جبهتين في آن معا .. جبهة الذات التي تتفجر لغة وعناوين حمراء..تصب في محصلتها في الجبهة الثانية ..حيث يقف بانتظار الوطن الذي يحتويه .. وفي الجبهتين .. لا يكون الأديب كغيره في احتفال العتمة بالضوء .. ذلك أن مساحة الذاكرة تتخذ شكلا متسعاً في العبور نحو الأشياء .. بصمتها .. بعفويتها .. بالجدران التي تحاصرها .. بالأسلاك الشائكة التي تلف المكان .. بالضوء المطعون في ليل يقهقه للزنزانة العفنة .. فتسقط الزنزانة في مستنقعها .. وبيدين داميتين يكسر صلابة الأسلاك الشائكة التي تلف المكان .. يرسم على الجدران صورة الفرح الذي يجيء راكضاً بلا مواعيد .. أزهاراً قابلة للتحول المفاجئ .. فيرتفع الصوت ويسقط صمت المكان .. فتُخرّج الزنازين كفاءات يحفل الوطن بها .. فتدمع عين السجان الذي يسقط بلا وردة ويصاب بداء القهر :
ـ كيف يصنعون ذواتهم المنيرة في هذه العتمة ؟ـ كيف يحرثون ويزرعون بين صدأ السلاسل والصيف المخيم ؟إنهم الذين يدركون صعوبة الطريق الطويل .. فيتوضأون بدمهم للوضوح ..
وفي الخصوصية الأكثر خصوصية .. الشاعر يغادر المكان في إغفاءة عين بتأمل.. يحلّق كطائر أخضر في فسحة المكان .. ويجتاز الشيك والأسوار التي تكتظ بالحراس والبارود ..
عام مضىوتظل تفتتح الرسائل بالحنينِ ،تظل تحلم بالنهارشمس على أوراقك الثكلى تنامُ ،ولا مفر من القصيدة ، لا مفرْفاقرأ نشيدكَ ، لست وحدكَ ،لستَ أول من شدافاصعد ، تخطى " الشيكَ " ، أروقةَ العساكرِ ، وانتشرْأنت المحرَّرُ ، غرفة السجن انتصاركَ ،أنت تحلمُ ،والعساكرُ لا تنام عيونهمأنت المحرَّرُ ،والطريق إلى فضاء الروح واسعة ،على مرمى حجرْفاحلم كما شاءت بلادكَ ،وانتصرْ.. "





عن سيرة الغربة

" الإنسان الذي أحمل حقن ملامح وجهه بالصبر لكيلا يفيض البكاء..وهو يودع أمه ذات صباح غارق بالوجع .. حين شد رحال سفره خارج جغرافياه .. فصرخ الشاعر في داخلي ..
لهفي على عينيك حين بكت ..وقلت : مع السلامة وأنا حقنت ملامحي بالصبر ..قلت : غداً أعود ومضت على ثغري ابتسامة
وفي هجير الغربة .. كان المكان المتسع لا يتسع لمن لا يعرف سوى لغة بلده .. لمن أدرك أن المكان لا يحمل كنه المشتهى .. وأن الزمان توقف على حدود الوطن .. على الرغم من أن الوطن الأكبر هو الحلم الأكبر ..لكن ما هو كائن ينشر الظلال بإكراه.. فصودرت جمالية المكان في حضرة الشاعر الغارق حنيناً وشوقاً عارماً لمشتهاه .. حين تسأله زوجة خاله .. مشيرة إلى جمال أحراش " دبين " .. ألا تشبه هذه الطبيعة بلادنا ؟ .. فيرد :
هذا الجمـال وما يحويه من صورٍ تسبي العيون وتشفي الآه في الكبدِ
للسحر فيه ضروب كيف أدركها والعين في لهف تصبـو إلى بلدي ؟
وحين اكتظ به عطشه .. وعانى من هجير الرمل .. صرخ بملء ألمه ..
أعيدوني إلى وطني إلى واحاته الخضراء ..فالصحراء تحرقني
وحين عاد ..
عاد ..
ولكنه لا يزال يبحث عن وطنه ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق