الخميس، 31 ديسمبر 2009

صحوة العام الجديد ـ نص

صحوة العام الجديد


حين نقف على بوابات أحلامنا .. وننظر من شرفة ما فارقت طوابير الأحداث التي كانت .. والتي جاءت تؤسس كيما يجيء الآخرون .. نسرح في حفرة طويلة العمق .. عميقة الاتجاهات .. طويلة بحجم المأساة التي ألقت خيامها .. وما غادرَت أفق أفراحنا الداكنة .. كي لا نشد الرحال .. وكي لا نحمل حناء أصواتنا .. وكي نبقى نحن الفقراء .. نقيم في العراء .. لا نتوق .. ولا نعشق .. ولا نغني .. بل نحمل سر المواعيد في ظلال المواثيق القادمة .. نتوحّد حين نعلن أحزاننا في ربيع لم يأتِ بعد .. ونضحك ملء أفواهنا التي صدئت .. لنهتف من شرفة المساء الأخير: كل عام وأنتم بخير .

نتأملُ .. نرتّبُ في سماء أيامنا غيم الحكايا .. ولا نجد ما نفسّره لأطفالنا الجياع .. نلملم ما نشتهي في جرار العسل .. ونضحك ملء أفواهنا التي صدئت .. ونحن نعلك الهم .. ونعلك بقايا الانتصارات التي انتصبت في عرق الأولين الذين فارقوا نجوم أيامنا .. لنهتف من شرفة المساء الأخير : كل عام وأنتم بخير .

كانت هناك على حدود الفضاءات المتعبة .. أغنية لملمتْها الفراشات في تعبٍ ولم تفارق حين فارقنا .. ولم تتعب حين تعبنا .. ولم يسقط من يدها الخيار مثلما تعرَّت فينا مواعيد السنابل في حقول كانت لنا .. لكننا وفي الغمرة المتعبة .. ننسى لكي لا يطول الحزن فينا ونضحك ملء أفواهنا التي صدئت .. لنهتف من شرفة المساء الأخير : كل عام وأنتم بخير .

لأنك الذي ضربت جذوره في العمق .. ولأنك الذي نبتت خلاياه تحت جلودنا .. وتحت أظفارنا .. وفوق مقابض أبوابنا .. وعلى تضاريس كل المواعيد التي فارقنا .. والتي نشقى ونحن نتشبث في حضرتها .. تبقى أنت .. أيها الوطن .. أيتها الأغنية التي نشأنا على ترانيمها المخملية .. أيها الشعر الذي ننمو على قبلاته الباقية .. أيها المألوف الذي " يندس " في فراشنا بلا استئذان .. تبقى أنت من يُضمّد فينا جراح المواعيد التي نزفت في رحلة النسيان .. ولنهتف لك .. أيها المتربع في القلوب .. ومن شرفة المساء الباقي .. وملء أفواهنا التي لثمتك : كل حلمٍ وأنت بخير .. كل يوم وأنت بخير .. كل طفل وأنت بخير .. كل أغنية لا يضيع صداها بين مدن الصمت والشوارع التي بلا هتاف .. وأنت بكل الخير .

سياج البحيرة المالحة ـ شعر




سياج البحيرة المالحة



عَذَّبْتَ قلبي وقلبي أنتَ مُسْعِدُهُ
يا منْ أَتَيْتُ على حبٍّ أُعاهِـدُهُ



قلبي يُحِبُّـكَ في سِـرٍّ وفي عَلَنٍ
وليس يخفى على حيٍّ يُشاهِدُهُ


أَعُـدُّ قَبْـلَكَ أيـامي وأُبْصِـرُها
دهـراً تَجافى وجافَتْني مَراقِدُهُ


وذا فؤادي أتى والشوق يسبقهُ
يفرُّ نحـوك يـا يومي ويا غدُهُ


يلوذُ بالوصلِ والأشواقُ قد عَزَفَتْ
عن كلِّ لونٍ سوى ما كانَ " أسوَدُهُ "


وجِئْتُ فَيْضَ الهوى أُهديكَ أمنيةً
تُنبيكَ عني وعن جرحٍ أُجالِـدُهُ


لينهضَ الجرح من ذبحٍ ومشنقةٍ
ويطــمئنَّ إلى كفٍّ تُضمِّـدُهُ


وقد أطاحت به الأيـامُ جائرةَ
على اغتراب الرؤى ظلَّتْ تُواعِدُهُ


فرام عندك لما جاء مغتـرباً
على السـكينة أن تحظى مواجدهُ


وَوَدَّك الشـوقُ لما جئْتَهُ عَبِقاً
تُوَرِّد الوقتَ فاخضرَّت موائدهُ


على حنانك أمـناً فيه أمِنَتْ
روح الغريب وقد لانت شدائدهُ


وما اسـتراح إلى ما كان من زَمَنٍ
إلا لأنَّـكَ في طيـفٍ يُناشِدُهُ


ففرَّ نحوكَ كالمنفيِّ عن وطنٍ
يجوبُ أرضك من نفيٍ يُطاردهُ


فأعْلَنَتْ بكَ شمسُ الفجرِ قامتَها
حتى أنارتْ على كونٍ يُمَجِّدُهُ


وَطابَ قلبي وإن شَطَّ النوى وَغَدَتْ
كُلُّ البـلادِ على نأيٍ تُشَـرِّدُهُ


فَطِبْ حبيباً وقد آنَسْتَ مُعْتَرِفاً
بطيب وصلك لما جاء يَنشُـدُهُ


فإن رآكَ رأى دنيا يُغـازلهـا
وإن سَلاكَ الهوى قلبي يُجَدِّدُهُ


وأنتَ في القلبِ دنيا والهوى وطنٌ
أسرى به الحبُّ فاشتَدَّتْ سواعِدُهُ


فابعث مياهك في رملي لعلَّ بها
يُروى قتيل الظما مما يُكابدُهُ


الشارقة تشرين الثاني 2009م

الأربعاء، 23 ديسمبر 2009

ألف ليلة وليلى ـ سرد

ألف ليلة وليلى


ليلة صادقني الأقحوان
انفجرتُ ضاحكاً من شدّة الوجع
كنتُ أمشي وحيداً
بلا ذاكرةٍ تفتح العتمة الموصدة
أتمطى مثل سلحفاةٍ لا تعرف الوقت
تشربُ أنفاس المحاربين القدامى
وتغزل موج الشواطئ
عند انكسار الرمال البعيدة
ليلة صادقني الاقحوان
ألقى بقاياي على مقعدٍ متـرفٍ بحكايا
بأناشيد
بأسراب طيورٍ حالمة
تحاور حوريات المتوسط بموج طويل اليدين
سَرَقَتْهُ ساحرةٌ شريرة
جَبَلَتْ " بقجتها " بالعسكر قرب جدار
واحتست قهوتها عند أول اللوز وسارت في مروج الغناء
تُحمّلُ قلبي خرائط دفءٍ لافتتاح المساء
في بقايا من جلنار تعلَّقَ في ثورة الريح
وما سيَّجتني
لحمرة الدم واحتباس الشرود
لكنها سامرتني ونامت
حين أيقظتني في الغياب
كصرخة موجٍ
تكسَّرَت على شاطئ من رماد السؤال
ليلة صادقني الاقحوان
عدت وحيداً
بلا أجنحة
بلا يدين
بلا أخبار أحبة
تُهرِّبُ سيرة ألوانهم
وضجيج الصغار الراكضين إلى الصدر
انتَشَلَتْهم قافلة مرَّت على طريق الشتات
وباعتهم بثمنٍ بخس

..................
ليلة صادقني الأقحوان
انفجرتُ باكياً من شدّة الضحك

الكوميديا السوداء ـ قصة

الكوميديا السوداء



جاءته ذات لحظة عابرة في فضاءت التأمل وهي تجر" عناقيد الغضب " في كلماتها .. وبرفقتها قريب صغير احتج على" شعار جداري " كتبه صبية الحارة المتطفلون .. بأنها وبأنه متحابان .
سألته مستنكرة :
ـ صحيح في إشي بيني وبينك ؟
كانت تضع يدها بطريقة " التفافية " لتخفي جانب فمها المقابل لقريبها الغر .. عضت على شفتها السفلى بعد سؤالها له .. تعبيراً عن دعوتها له بعدم الاعتراف .. واستوقفته هذه الالتفاتة " المصيرية " .. إذ أن هذا المشهد لهو دليل صارخ في برية الروح على أنه " في إشي بينها وبينه " .. لكنه استجاب لرغبتها .. فقال :
ـ لأ .. ما في إشي .
فأردفت .. بعد أن أفرجت عن شفتها وأزالت يدها عن جانب فمها :
ـ يعاد شو هذا اللي مكتوب عَ الحيط ؟
قال باستغراب :
ـ شو مكتوب ؟
قالت بابتسامة :
ـ بسام بحب صفية .
قال والدهشة التي يشوبها الفرح ترتسم على تضاريس وجهه :
ـ مين اللي كاتبه ؟
قالت وعلامات الاطمئنان على وجهها بعد حصولها على شهادة البراءة :
ـ كنهم أولاد الحارة اللي كتبوا .

قال بابتسامة :
ـ يا عيبهم .
أشارت إلى قريبها الصغير :
ـ شفت ما في إشي بيني وبينه .. يالله نروّح .
غادروه بعد أن تركوا ذهولاً يحتله حتى أدق تفاصيله .. وبانفلاتة غزال .. استيقظ وهو يردد :
ـ في إشي بيني وبينك .. كيف ما في إشي .. ؟
أدرك الآن فقط أن جميع قصائده التي خطها في شتاءات الانتظار المريرة ما ضلَّت طريقها .. بل حفرت في صخرة قلبها أخاديد التواجد .. والذي ما جاء إلا بعد عذاب أذاقه مرارة البحث عنها في السهر والقلق واتساع مساحة الحزن في داخله .
إنه الحب إذن .. الحب الذي أرادته أن يخفيه عن قريبها .. ليبقى السر منتشراً في مساحة قلبيهما فقط .. وما قيمة ذلك بعد أن انتشر بين صبية الحارة .. لكن الأهم من هذا هو إشارتها بحبها له .. وإنه يوجد ما يوحد بين قلبيهما ..
جاءته في المساء التالي برفقة أمها .. كي تستعير كتاب المطالعة بغية إعداد موضوعاً للمدرسة .. عرض مساعدتها .. فادَّعت أنها تفضّل الاعتماد على نفسها .. أعادت الكتاب في اليوم التالي مع أمها التي لا تعرف القراءة .. أعادته بعد أن سطرت صفحة جديدة على الصفحات البيضاء في نهاية الكتاب .. حـمَّلت مساحتها اعترافاً صريحاً بحبها له .. وأنها تعيشه وتقرأه وتتهجاه ..

انتفض في ضجيج الأصوات المتلاحقة .. صرخ بملء أعماقه .. آه يا صفية .. يا نشيدي الصارخ في برية الروح .. يا عمراً تلكأ على حواف الجدران .. وأرصفة الطرقات الصعبة .. آه يا نشيدي الذي سرقوه من شفتي بعد ما أزهرت أوراقه .. فغزا الشيب اسوداد الشعر .. أين أنت الآن .. ليتك الآن معي .. لتطفئي مرارة هذا الوجع المتأجج .. أو تشعلي معطف هذا المساء المعفر ببرد السنين .. والذي ما انفك يشد الروح لتلك المساءات الحالمة والمليئة بوجع البوح ومرارة الاعترافات .

وقالت العرافة ـ نص

وقالت العرافة


إلى آمنة عارف حجاج ..
الفلسطينية المقيـمة خلف النـهر الذي لم يمنحها بطاقة عبور ..
فظـلَّ الوطن يُفجِّرُ في داخلهـا نبعـاً للعــودة لا ينضب ..
و " آلت ألا تبيعه " .



1
كان يقفز كل صباح من رئتيه
ويرسم للريح شكلاً جديداً
يُعيد البلاد إلى ما اشتهت
نازفاً مثل حقول الكلام
يركض نحو هواء خلَّف النار على وجنتيه
يمد يديه إلى غيمة
تُوحِّده زفرةُ الريحِ /
حنينُ الكلامِ
شرودُ الغزالات نحو أول النهر
يشرب حين يعود انفجاراً /
ممرّ لغات
لا يحفل الماء بالرمل
ولا تستوي بين الهضاب بحيرة الملح
جراحاً تفيء اتساعاً
ولا موجة تمرّ على كسرة خبزٍ / حياة
وجوه أضاعتها الشوارع
لم يحرق الماء نار المشاعر
عند اتقاد الجنون / الهواجس
كم ينبغي من الوقت أن يمرّ
كم ينبغي للريح أن تسوق السحاب
كي يفيء " الخراج "
ويقرأ في حضرة الأرض نشيد المطر ؟
2
كان يشرب قهوته الباردة
يمرّ إلى بلاد لا تعترف بغربة الفرح
ينظر في شقوق فنجانه
حيث غزالات المراعي تتقافز
" تتعربش " على خيوط الشمس
ينظر إليها من بعيد
يدرك كم هي المسافات شاسعة
ويدركُ حين يمرُّ بلا وردة
أنه يتراكض فارغ اليدين
يتوه في زحمة المدن والشوارع التي بلا شجر
هي الطقوس التي فُجّرت عند أول زاوية ترتفع
توقظُ الوطنَ من غفوة نعاس طويل في حضرة الصوتِ
يكسرُ لغة مجففة سرَّبـها الآخر في ضفة النهر
يفيض ثـمراً يانعاً
أنفاس بساتين
أمواه بحيرات لا تعرف الملح
شمساً تكـنز بقاياه
لا تعرف طقوساً باردة في ذاكرة النفي
ولا اسوداداً في طريق الوصول
تحفلُ بما تبقى من أناشيد
خلَّفها في غرفة الصف بين التلاميذ
تواجه الحرب التي أغرقته
ذات حزيران تبلل بالنار
تكتب الشعر بملح البكاء
لكي لا تسرقه الحرب من بهجة الغناء
كزمان مثقل بعباءات تُسقط مطراً قاتماً لاحتفاء النواح
هو النور ذاكراً توهّجه في العيون
طالعاً منذ أوْلَموا حتى انكسار التراجع
ناشراً فضة روحه على فضاء الحقول
كي تحسن الفراشة ارتشاف الرحيق
وتولم في احمرار الوجنتين نشيد الشقائق
يرتّبُ فيها حنين السنين التي شرَّدته
ترانيم جديدة لا تعرف الانحناء
هـمّاً كبيراً بحجم البلاد التي أرضعته
يُعيد الملامح للذاكرة
هنا لَعِب
هنا توقَّفَ مندهشاً
هنا تفيـّـأَ ظلال الشجر البريّ
وهناك
حيث يُقيم الآخرون احتفالاً
قَتَلَتْه ذكريات منسية
لطفولة تئنُّ في ممرات الدم
غير أن القطار الذي لم يتوقف
لم يتوقف
وسامر الشيب اسوداد الشعر
رغم الأحلام التي لا تتوقف
كالقطار الذي لم يتوقف
تنهض قمراً ونجوم سماء
ينظر فيها
يحلمُ
يتوجعُ
ينـزفُ
يستيقظُ
يصرخ
ـ يا عنب الزمان الذي يتدلى من كرمة الوقتِ ،
أَعِدْنا قليلاً لأجسادنا

فراشة الزهر البري ـ نص


فراشة الزهر البري



السبت
استيقظتُ صباحاً كعادة الناس .. أيقظتُ ذاكرتي من بقاياي .. تنفَّسْتُ .. كتبتُ على الباب الصغير المقفل :
ـ أحبكِ يا صغيرتي .. متى يُفتح بابك لأراك ؟ أولسنا على موعد ؟؟


الأحد

استيقظتُ صباحاً كعادة الناس .. تذكَّرتُ أن أتنفس .. تنفستُ .. نسيتُ الذاكرة حين تذكَّرْت .. تراجعَتْ جيوش الفرح عن مواسمها .. دُهشتُ .. لملمتُ بقاياي .. وسرتُ إلى سفح الجبل .. حيث يعيشُ الراهب في داخلي .


الاثنين
استيقظتُ صباحاً كعادة الناس .. نسيتُ أن أتنفس .. نسيتُ أن أتذكّر .. كتبتُ قصيدة حبٍّ مؤجّل .. صرختُ في الجدران أن تفتح النافذة .. قبَّلت هباءات الغبار المنتشر في شعاع الشمس .. نمتُ لأحلم .


الثلاثاء
استيقظتُ صباحاً كعادة الناس .. تنفستُ قليلاً فقاطعتني ذاكرتي .. تذكرتُ .. غرستُ بذرة في الليلة الماضية حملتُها من ثلاثين عاماً .. طالما زرعتها وألغيتُ مواسم الحصاد .. لأن التربة المالحة .. أجَّلتْني لكي أصير أباً للبنت الصغيرة النائمة التي لم تفتح الباب بعد .


الأربعاء
استيقظتُ صباحاً كعادة الناس .. تنفستُ ذاكرتي .. حملتُ الفأس لأجعل العشب أجمل .. ولأعطي الفراش رحيقه البري .. غير أن الصوت تحشرج .. حين داهمني طوفان الفرح الذي لم أعتد .. رنَّ جرس الهاتف .. ممكن أكلم الأستاذ ؟ لا .. إلا إذا كنت أنتِ .. قالت .. أنا أنا .. وفَتَحَتْ البنت الصغيرة النائمة بابها على الشمس .

الخميس
استيقظنا صباحاً كعادة الناس .. تنفَّسنا .. تذكّرنا .. ركضنا طويلاً بعيداً في الساحات الملونة .. جمعنا الزهر البري .. وأسقينا العصافير ماءنا الملون .. وكتبنا على الجدران .. أغنية المواسم المقبلة .


الجمعة
تنفستُ .. تذكَّرتُ .. قرأتُ جريدة الصباح .. نسيتُ أن أستيقظ كعادة الناس .. وعدتُ أحلم من جديد .. لعلي أصير أباً للبنت الصغيرة النائمة التي لم تفتح الباب بعد .

حين تبكي فاطمة ـ مطولة شعرية









حين تبكي فاطمه






إهداء




إليها ..
صرخةٌ للإنتباه
ودمعةٌ ..
لنشيديَ المحروق ما بين الأصابع .





تقديم




صُوَرٌ على الجدران تبكي ،
كلّ حلمٍ ،
كان فينا وانتهى
ومواجعٌ حطَّت على أغصان قلبي ،
حين جاءكِ واشتهى
أن تُرجعي عصفورة للغصن تاهتْ ،
حين أخْفَتْ ما بها
بنداء قلبٍ يحترقْ
فاضت به الأشواق نيراناً على صدر الورقْ
يهتزُّ في صدري ، ويصرخُ : فاطمهْ
يا بسمة الفرح القتيل على شفاهي ،
يا حرائق سندياني ،
في حياتي القادمهْ .









حين تبكي فاطمه






عشرين عاماً شدَّني وجعي إليَّ ،
وما عرفْتُ سوايَ طفلاً ،
في الكهولةِ ،
يستريحُ على تَعبْ
ورمى عصارته لتبقى ،
صرختي في ماء صوتي ،
والندى كفني ،
ووجهكِ خامة الكلماتِ ،
أغنية نَمَتْ
عصفورة للدفءِ ،
غزلاناً تفيض بها المراعي ،
حين يسرقني اندفاعي ،
نحو نجمٍ يقتربْ
آخيتهُ أفقاً لنافذةٍ تطلّ على بلادٍ ،
كنتُ فيها أغتربْ

عشرين عاماً ،
أغرسُ الأشعار تحت نوافذي
وأخطُّ للوجع الجميل مداد صوتي ،
حين يورق عن كَثَبْ
أفقاً لوجهكِ ،
زهرة تلد الحدائقَ حين تنثر عطرها
يا أجمل امرأةٍ عَرَفْتُ ،
وأجمل امرأةٍ أُحبُّ ،
وأجمل امرأةٍ تُخبّئني يداها ،
في حقول الأخضر المنسيِّ ،
هل جفَّت حقولي ، كي أرى
جَرَس النهاية يُعلن الآن انكساري ،
في دمارٍ مُرتَقَبْ ؟
وأرى العواصف أمطرتني ،
حين جئتُ ،
وأيقَظَتْني ،
نجمة ، خبّأْتُها عشرين عاماً ، للتعبْ ؟؟
عشرين عاماً كنتِ سيدتي ،
وفاتنتي ،
وكانت أنجم الأشياء تنثر فوق شعرك فرحتي
أمَلاً تعتَّقَ ،
حين جاءك وانسكبْ
قمراً من الحلم المصفّى ،
حين أخفى ،
ما أحَبْ
في بسمة امرأةٍ أضاءت في فمي
مرّ الكلامِ ،
وغادَرَتني ،
لم تودعني قليلاً كي أرى
فيها دمي
أو كي أُعيد وصيَّتي
وأُعيد موّالاً لنجمٍ زفَّني
في قلب عاشقةٍ تغادر ما اشتَهَتْ
من جنّةٍ يَبِسَت قليلاً ،
وانتَهَتْ
لتذيع سيرتها الجديدة ،
في بكاءٍ قادمِ .



عشرين عاماً شدَّني
وجعي إليَّ ، ولم أجِدْ
لأراجع الأسماء والأشياء غيركِ ،
لم أجدْ
انشودة لسماء صوتي ، لم أجدْ
بوّابة فَتَحتْ يديها ، لم أجدْ
قَمراً يدلّ على الطريق ، ولم أجدْ
شجراً يظلّ من الحريق ، ولم أجدْ
سَكناً يُهدهد وجنَتَيَّ لتستريحَ ، ولم أجدْ
شفتين ترقص بينهنَّ الأغنيات ، ولم أجدْ
وجهاً لعينيَّ اللتين أقامتا حدّاً عليَّ ، ولم أجدْ
أذنين تسمع ما تورَّد من حديثٍ للمساءِ ، ولم أجدْ
غيري تفرَّد بالبكاءِ ، ولم أجدْ
وطناً سواكِ ومسكناً آوي إليهْ
من رحلة الأسماء والأشياءِ ،
كي أنسى رمادي ،
حين ثُرتُ لهُ عليهْ
لأعيد صوتي في بقايا جثَّتي
وأعيد سيرة ما اشتهى
في راحتيهْ

عشرين عاماً ،
آهِ ، من عشرين عامْ
وأنا أزفُّ قصائدي
وطناً جديداً للكلامْ
أسقي الصهيل لخيل أيامي ،
وأطلق كل قافلةٍ ،
وأركضُ خلف حاديها ،
لأرسم نجمةً
غَرِقَت طويلاً في الظلامْ
لأعود في فوضى الغَبَشْ
وتعود ملآى بالعطشْ
في نار شهوتها ،
وحاديها ينامْ
*
*
سَرَّجْتُ ألف قصيدةٍ
حتى طَعَنْتُ قريحتي
ومداد صوتي ما نَضَبْ
وَرَسمْتُ ألفَ حكايةٍ
لفضاءِ وجهكِ كنتُ قد خبَّأتها
أسْرَرتُ فيها رغبتي
بنشيديَ المحروق ما بين الأصابعِ ،
كنتِ وحدكِ ،
حين جئتكِ ،
شاهراً للريح سيفي ،
قيل : ترتعش الفراشةُ ،
في فضاء النار تسقطُ ،
قلتُ : ترقصُ ،
حين نفترش الغمامةَ ،
والطيور على فضاء البوْحِ تصدحُ ،
للنشيد المرتَقَبْ
واستَوقَفَتني زهرةٌ
مرَّت أصابع نحلتي في شعرها
ألقَت عبير الحبِّ فيَّ ،
وكنتِ وحدكِ ،
كنتُ طفلاً ساجداً للعشبِ أن ينمو ،
وأرقص كي أُضيء ذبالة الفرح الجميلِ ،
على شفاهٍ تقتربْ
فعلامَ يتركني شراعكِ ،
نازفاً بالموجِ ،
هل كانت ليَ المرآة وحدي ، أمْ لنا ؟
نحن الذين تفرَّقَت أسرارنا
بين البلادِ ،
وصرتُ وحدي اوقظ الذكرى ،
بسوء المنقلبْ ؟؟
وعلامَ تأتيني الطفولة في الكهولةِ ،
تستريح على تعبْ ؟
وعلامَ يأتي الميّتونَ النائمونَ على سريرٍ من خشبْ
يسْتَذْكرونَ دروسهمْ ؟
ويراجعون قصائد العشق التي خبَّأتها ؟
والناس من حولي أفاقوا ،
حين ماتوا ،
يرقصون على نشيد جراحهمْ
يترنَّحون من الطربْ
وعلامَ لا تأتي القصيدةُ ،
كي تثير بنا الموات ،
وما تكدَّس من عطبْ ؟
ولمَ النوارس غادَرَت شطآنها ؟
ولمَ العصافير التي ارتاحت لديَّ تفرُّ منّي ،
نحو ألسِنَة اللهبْ ؟؟
لأرى الهوى
شجناً هوى
في غابة الحرمانِ ،
في صوت العصافير التي ارتَحَلتْ ،
وقد خبَّأتُ فيها نرجس الأشياءِ ،
وهْيَ تمرُّ بين أصابعكْ
أو دفء حلمكِ ،
أو صدى أوجاعك المنثور بين ملامحكْ
لمـّا يفيض بك التعبْ
وتحطّ فوق حروفك الثكلى ،
عصافير الكلامِ :
" الفتنة " الأخرى لنا
أو " زينة " الوقت الذي ما مرَّ يوماً بيننا
حتى يُزخرف ما نريدْ
انشودة فيها " محمّد " أو " يزيدْ "
وطنان في وجهٍ يمرُّ الى الذرى
من غابة الشجر القتيل ، لكي يرى
آذار يزهر في الخريفِ ،
وما يعاف القلب جسراً ،
كي ينام الجوعُ ،
أو جسراً لتعبرَ لي خطايَ ،
لتستردَّ طيور حقلي صوتها
أو أسترد نشيديَ المحروق ما بين الأصابعِ ،
سُكَّراً بين الشفاهِ وأغنيات مزهرهْ
ترخي جدائلها عليَّ ،
لكي تفرّ لها الأصابعُ ،
أو تبوح إذا رأتني عابرا
يحتلّني شجر الطريقِ ،
وأشتهي ناقوس صوتكِ ،
طائراً في ما أُخبّىءُ من حكايا ،
في حقول الأمنياتِ ،
وأشتهي قمراً لأعبرَ نحو ذاكرتي ،
ونجماً فوق قارعة الطريقِ ،
لعلَّ ما أَبْقَيتِ مني ،
يستريح على المقاعدِ ،
تحت شمس الذاكرهْ
أو أشتهي صيفاً ليعبرَ ،
كي تنامَ غيوم أيامي ،
وأنهضَ ،
شاهراً في الريح صوتي ،
كيف أشْعَلتِ المسافةَ بيننا ؟
كيف اشتَعَلتِ صدىً تلاشى ، وامتطى
عصفورة للريح ما أطلَقْتُها
حتى تظلَّ مغادرهْ ؟
لأعود في فوضى العتابِ ،
مع التوجّع والعذاب ،
مع الشجون تردُّ لي
حلماً ليبقى شارداً في المقلتينْ
أو فاقداً جسداً تسمَّرَ في سحابة دمعتينْ
أو أعلن الآن انهزامي ،
من حريق الماءِ ،
أو أبكي ،
وأحرق ما تبقى من صوَرْ
كي لا أظلّ على سفَرْ
أو كي تفرّ طيور مذبحتي إليكِ ،
لتستريح على يدينْ
وأفرّ نحوك قاتلاً
قَتْلاه قلبيْ عاشقينْ .
*
*
أنا ما حملتُ الآن حزني ،
أو تذاكر صرختي
يوماً لهذي المذبحهْ
أنا ما حملتُ بيارقاً
هَرَبَتْ إليَّ ، تشدُّ فيَّ البارحهْ
إلا ليشربَ من دمي
شجرٌ تنفَّسَ ماء روحكِ ،
صدّقيني ،
كنتُ أعمى يا امرأه
أطلَقْتُ فيها ـ دون أجنحةٍ ـ طيوري ،
فارتَقَتْ
وتساقَطَتْ
في المشرحهْ



أنا ما حملتُ الآن قلبي ،
حين جاءكِ يعترفْ
أني هَزَمتُ الحلمَ فيكِ ،
فسامحيني ،
وانتصَرتُ على خطاكِ ،
وعاتَبَتني ،
في الصباح المرِّ عيناكِ التي حطَّت بقلبي ،
صرخة في كلّ حرفْ

أنا ما حملتُ الآن قلبي ،
حين جاءكِ يعترفْ
أني كَسَرتُ زجاج روحكِ بالصدفْ
أني سرقتُ مدائن الأفراح منكِ ،
بلا تذاكرَ ،
لم أمدّ يدي لأقطفَ غير زهرة أقحوانْ
يتساءل النوّار فيها :
ـ هل تحب ؟ وينتهي
ليديْنِ تجمع ما تناثرَ من نشيدٍ للمكانْ
وقرأتُ فاتحة عليهِ ، وما انقضى
مما مضى
لَمْلَمتُهُ بيديْنِ من تعبٍ تباهى ،
كي تصير الأمكنهْ
عطراً يفوح وأغنيات ممكنهْ
في وجه غابة بيلسانْ
وتصير ورداً للأصابع في يديكْ
وعلى الشفاه قصيدتين ودندنهْ
*
*
كم زهرةٍ أرخَتْ يديها فوق شعركِ ،
حين غازله الهواءْ ؟
كم نجمةٍ خبّأْتها
لفضائك المنسوج فيَّ ،
وغازلَتني ،
حين شاهَدَت ارتباكي ،
وافتَعَلتُ لها الغناءْ ؟؟
كم طائرٍ فرَّتْ قصائده لصوتكِ ،
حين جاءْ
يحكي عن القمر المذهَّب ،
حين يذهب للعراءْ ؟
ليضيء سيرته القديمة ،
في عيون حبيبتهْ
ويعود في أنشودتهْ
وجهاً جديداً للمساءْ ؟؟
كم صورةٍ أخفَيتُ فيها لهفةً
سالت على العينينِ ، تفضح ما خبا
لتشدَّ وجهاً طيّبا
نحو الوراءْ ؟
تتعشَّق التذكار فينا ،
هل نسينا ،
كي نخيِّمَ في العراءْ
عصفورتينِ تضيء واحدة لأخرى ما تريدْ ؟
قمرين يقتربان يلتصقان ، يسقط فيهما
وجع البريدْ ؟
ويذوب في عينيهما صدأ البكاءْ ؟؟
*
*
صُوَرٌ من التذكارِ ،
نافذة ، وقلب ينفَطِرْ
في كلّ يومٍ يشعلون وراءهمْ
نار الحديث ، وما انتَهَتْ أصواتهمْ
في كل ركنٍ أو ممرْ

صُوَرٌ من التذكارِ ،
شمس تحرق الأشياءَ بعدَكِ ،
حين تسرق ما نخبّىءُ من نشيدٍ للقمرْ
ـ يأتونَ ؟
لم يتَرَجَّلوا
بعد انكسار الموج فوق صخورهمْ
يتسابقون من العراء الى العراءِ ،
الى البكاء من البكاءِ ،
ومن حنينٍ أشعَلوه وغادروا
نحو البدايةِ ،
ـ هل سيأتونَ المساءَ ؟
سيرجعونَ ؟
أم استراحوا ؟
قادمونَ ؟
مغادرونَ ؟
وأيقَظَت فيهم بلادٌ صوتَها
كي يسرقوا ثمر الشجرْ
أو ما أفاءَ ، ويتركوا لي بَعدَهمْ
منفى القصيدة حين ترجع وحدها
لتعدَّ مائدة الحنينِ ،
لتشربَ الشايَ المعبّأ ،
في كؤوسٍ من ضَجَرْ ؟؟





ـ أعدَدتَّ شاياً للصباحْ ؟
ـ أعدَدتُني
وفتحتُ نافذتي ،
وألقيتُ التحيةَ للنشيد المستباحْ
ـ كوبينِ ؟
ـ لا ، كوباً ،
وينكسر النظرْ
من كل نافذةٍ تطلّ على الطريقِ ،
سيرجعونَ ؟
وفي فضاء الهجر ناموا ،
يسرقون ندى الخطى
يُلقونَ ـ في الفجر ـ التحيةَ للفراغِ ،
وأيقَظَت فيهم بلادٌ صوتَها
والهجر أيقظَ ما اختَمَرْ
من طينة الحلم التي سقَطَتْ ،
ليسرقها المطرْ ؟؟

ـ أشعلْ لفافة تبغكَ الآنَ التي ...
ـ أشعَلتُ أغنيتينِ ، لي ولنجمتي
ولها كَتَبتُ رسالتينِ ،
بوردتينِ ،
وما تبقى من فراشٍ منكسرْ
طارت زنابقهُ ، وظلَّ على حنينٍ ينتظرْ
ـ أُكتبْ إذنْ ما شئتَ من وجعٍ ،
وحاذر أن تقولَ لأصدقائكَ ،
عن مماتكَ ،
في بلاد السوسنهْ
وارسم بلاداً ممكنهْ
فيها يطيب لك اللجوءْ
حتى يعود لك الهدوءْ
وتعود تلك الأزمنهْ
ـ أسْرَرْتُ نرجستينِ ،
واحدة لقلبي ،
واحترقتُ على ضفاف الثانيهْ
وغَرقتُ في بحر الهدوءِ ،
ولا مراكب تستريح على لغاتٍ حانيهْ
لتلمَّ أمواج الكلامِ ،
وما تناثَرَ ،
في رؤى متناثرهْ
لأظلَّ أركض نحو باب المنزل المركونِ ،
خلف الذاكرهْ
حتى إذا جفَّ الحنين أعدتُّ سيرتهُ لأبدأَ ،
من جديدٍ أنتظرْ .
*
*
ما كنتِ وحدكِ ،
حين فاجأَنا الصباحُ المرّ يبكي ،
لي ولكْ
حتى تثير سفاسفُ الأشياءِ وجهاً ،
للغبارِ ،
وللدمارِ ،
وكي تعذّبني معكْ
أو كي يظلّ سراج روحكِ ،
في المسافات التي تمتد فيما بيننا
ثملاً ،
وأجراس الفراق تدقّ معلنةً لنا
ما تشتهيهِ ،
بلاد حزنٍ ،
وارتجاف في فؤاد دَلَّلَكْ
فلمن أُخَبِّىءُ ـ كل يومٍ ـ لهفتي ؟
ولمن سأرعى جنَّتي ؟
لسواكِ ، أم للعابرين وقد رأوا بي أدمعكْ ؟؟
ولمن أُلملم ما تناثرَ في المنامْ
في كل صبحٍ ،
حين يبنيه الكلامْ
حتى أُهدهد مسمعكْ ؟؟
وأرى طيوري في شفاهكِ ،
حين اوقظ مبسمكْ
ولمن ، ومنْ
تبتزّ في صمتٍ عواصفها لتبكي ،
كل يومٍ ،
لي ولكْ
*
*
عَبَثاً أُفتِّشُ عن بلادٍ لستِ فيها ،
عن فضاءٍ لستِ فيهْ
عَبَثاً أُفتِّشُ عن شَبيهْ
يحتلّني هذا المساءْ
فخذي الحقائبَ ،
رتِّبي أشلاء روحكِ ،
واحرقي ما شئتِ من صُوَري ،
سأبقى جرحكِ المدفون في عينيكِ ، لن تَتَحَرَّري
منّي ، ولن يهتزَّ في صدري نشيجكِ ،
حين يغزوكِ البكاءْ
وخذي جمالك وارحلي
وخذي بلاداً كنتِ فيها ،
واحجزيها ،
عن فضاء تدخُّلي
وخذي الفساتين الجميلة ،
سوف تبكيكِ المرايا ،
عندما تبكين من شجرٍ يجفُّ ،
على حرائق سندياني ،
حين يسرقك المساءْ
أو عندما تبكين من ألَمٍ ،
ولا أُعطيكِ صدري للبكاءْ
وخذي عناوين انكساري ، وارحلي
وتذكَّري
أنّي أُغادر جنَّتي برضايَ ،
أعرفُ ،
أنني بيديَّ أحملُني الى منفايَ ،
أعرفُ ،
غير أنَّكِ لن تريني ،
عندما تُبدين روحاً للجمالِ ، لتزحفي
لفضاء إعجابي ،
ولن تَتحرَّري
من شمع صوتي ،
حين ذاب على شفاهكِ ،
صدِّقيني ،
أنتِ مثلي ، والأسى يحتلّ فيك الكبرياءْ
وبلادنا وطنٌ وحيدٌ ،
واقفٌ في الماء يبكي ،
كي نعيدَ له الموانىءَ ،
كي نخبِّىءَ زهرة للوقتِ ،
ريحاناً لميلاد الندى
أفقاً جديداً للصدى
ولأغنيات قادمهْ
تهفو لتوقظ ما تبقّى من نشيدْ
صوتاً يُعيدْ
قمر البداية نحو شمسٍ حالمهْ
وتعود غزلان البراري ،
كلّ يومٍ لانتظاري ،
حين أرجع في المساءْ
وتعود فوق شفاهنا
كل العصافير التي ارتَحَلت طويلاً ،
للغناءْ .
5 آب 1997م

شُرفات منسية ـ شعر


شُرُفات منسية
12كانون أول 2009م

قمرٌ يتغنى ،
وامرأةٌ تشربُ من قلبي ماء الغيم ،
تُفتِّشُ في حجرات القلبِ بنات الريحِ ،
تُفتِّحُ كلَّ جِهات العمرِ ،
ولا ينأى هذا الريفيُّ الواقف عند مصبّات الأنهار ،
يُقيتُ الجرحَ ،
تخطى الحاجز يوم اغتيل ،
وكان يُغني ،
للأطفال المعترفين بذاكرة الفرح المهجور ،
بلا مطرٍ وبلا عشبٍ وبلا أزهارٍ برّية .

فيُراودُ كلَّ نساءِ الأرضِ ويرتحلُ
لبلاد الشمس ، ولا يصلُ
لسماءٍ تُمطرهُ فِيّا

يَنْشُدُ أشجاركِ في ذاكرتي ،
أحمله من حيث يفيضُ ،
أُفَتِّشُ عن وطن يَتَخطّى كلَّ لغاتِ الشِّعر ،
وأركضُ خلف شياه المرعى وأغنّي ،
أقترف الحلمَ ،
فيَسْبِقُني رملُ الغرباء ،
هجيرُ المنفى ،
يلهثُ مثل عطاشٍ هَدَروا ماءَ العُمْرِ على شُرُفاتٍ مَنْسِيَّةْ .

وأنا المذبوحُ على شرفاتكِ ،
لا يتنفس غير هواءكِ ،
أتعرّى ،
تختنقُ الروح ،
وتحتلين مشارف روحي بين جهاتك ،
تعترفين بأنَّ الحزن خرافيٌّ ،
وبأنَّ الصمت خرافيٌّ ،
وعُرى النسيان خرافيةْ .

فأهاجر من فوضاي إليك ،
أشرِّدُ روحي بين جهاتك منذُ غدوتُ وحيد القامة ،
أشهدُ أني حين وجدتكِ كانت شمسي ظامئةً فانتصر الماءُ ،
وكانت روحي آفلةً نحو النسيان ،
انكسر الظلُّ على شرفاتك ،
حين يفعتُ وقالت روحي : سأغني ،
فاكتب للشاطئ أن يحتضن الموجَ وقل للرمل كفاك ،
كفى
فالشجر الأخضر قد وقفا
وتبنى طير الحرية

أُشهِدُكِ بأني كنتُ أغني منذ سمعتُكِ ذات صباحٍ تحتلين نوافذ روحي ،
تنسابين بلون الماء على أوقاتي ،
وتُغَنّينَ كأجمل بنت شرقيةْ .

تلقين بلادك من نافذتي ،
أركض ،
أحلمُ بالألوان ،
فيسبقني شلالُ دمي ،
في لحظةُ عشقٍ صوفيةْ .

تعترفُ الآن ،
وما نَسِيَتْ قيثارةَ صوتكِ وهي تلملمُ طعمَ الرجفة في دمعتها ،
حين تناثَرَت الأوتارُ ،
وتاهَ على " الكورنيش " فؤادٌ كان يغني ،
فاحْتَرَقَتْ كفّاهُ ،
وأبقى ذاكرةً تَفْتَرِشُ الحزنَ ومنفيّاً يَتَفَيّأُ ذكرى منفيَّةْ .

يا قمر الليل ،
ويا قيثارة شعرٍ تتهادى مثل النسمات على شرفات الليل ،
وتختزن الفاتحة الأولى ،
أركضُ كل صباحٍ مُرٍّ كي أتجرَّعَ من فنجانك قهوة روحي ،
أقرأ في الصحف اليومية عن زمنٍ يغبرّ فأغلق نافذتي ،
أختزن الشارع والفقراء المنسيين على أرصفة الجوع وأبكي ،
كي ألقاني منتحراً في شمعة روح ذائبةٍ بلَّلَها الدمعُ ،
وأدعو عشبك أن يتطاول في البرية كي أقوى ،
أتفيأُ ظلَّك كل هجيرٍ ،
وأغني ،
أشربُ قهوتَه باردةً ،
أحسدُ " حَسّونكِ " حين يُغَرِّدُ في دلعٍ ،
أستحضرُ جنيّات الشعرِ ،
طريقَ العودةِ في أحلامِ المنفيين ،
نشيدَ الريحِ على الأشجارِ ،
وأسرارَ الزمن المحفورةِ في قيثارة وجداني
وأغني ، أكتبُ : ليتَ أنا ،
لانتصر الشعرُ على الضوضاء ،
وجاء يغني ،
للفقراء المنسيين ،
وللشعراء المنفيين ،
وصار الشعر فدائيا

لكني يا قيثارة صوتي ،
يا نزف الكلمات الأولى في لغتي ،
أتوجَّعُ مثل رمادٍ سار إلى قلقٍ ،
تحمله الريحُ ولا ينأى ،
وتعيد الكرَّة كلّ صباحٍ ،
أشربُ قهوتَهُ باردةً مثل الحلمِ ،
ولا ينأى هذا الريفيُّ الواقف عند مصبّات الأنهارِ ،
يُفتش في شرفات الريح عن الأسرار الليلية

عن لغةٍ كانت ذات صباحٍ تسأل عنك ،
وتلقي حَبَّكِ كلّ صباحٍ حين يُطلُّ يمام الغربةِ ،
يسأل عنك من النافذة الغربية

كي يخفي عند بنات الريح نشيج دعاءٍ
يكتبُ عند هواك البكر إقامة حزني ،
كالفقراء المجبولين بكسرة خبزٍ ،
يتخطى لغة النسيانِ ،
فهل يقوى زمن النسيان بأن يغتالك من ذاكرتي ،
حين أغادر منفياً ،
أو حين أُغادرُ مَنْ فِيّا ؟

الخميس، 17 ديسمبر 2009

المدينة الواقفة ـ شعر




سما بكِ الشـعرُ حتى هاج بي وشَجا ... مني الفـؤادَ الوجـــــــدُ واخْتَـلجا
وخامَـرَ القلبَ نبضٌ من هـواكِ بـهِ ... كُلُّ المشــاعِرِ رَفَّتْ في الهوى مُهَجا

تفيضُ بالشـعرِ والأشـعارُ ما فَتِئَتْ ... تُفجِّرُ البــحرَ في أمواجـها لُـججا

يا أخت مكةَ ، يا مسرى من ارتفعت ... له الجـبال ومـن آفـاقـها عَـرَجا

فأَشْــرقَ الكَوْنُ وافْتــرَّتْ مَلامِحُـــهُ ... لمّا احْتَـفى بِرَسـولِ اللهِ وابْتَـهَجا

وزنـَّـرَ الســــــــورُ آفاقــاً مُفَـتَّـحَــةً ... على ترابك ذَرَّتْ طيــــبَها أرِجا

تُتَوِّجُ الأرضَ عَـدْلاً يُـســــــتـنار بهِ ... وَتُبْدِلُ الخـوفَ أمـناً والقـنوطَ رجا

ومـا اشــــتكى الهـمُّ ممـا قـد ألمَّ بـهِ ... إلا وجـــاءَ على الأعتابِ مُنْسَدِجا

لما رأى " عُمَرَ الفاروق " مقـتبِساً ... من هَـدْيِ " أحمدَ " نبـراساً ومُنْـتَهَجا

يَشـيدُ بالعَدْلِ إنصافـاً و " عُهْدَتُــهُ " ... على هُـداها ضميرُ الخـيرِ قـد دَرَجا

وما أغارتْ فُلـولُ " الرومِ " في ظُلَمٍ ... إلا وَآلَتْ إلى الإصــباحِ فـانْـبَلَجا

لـمّا أتاهـــا صــلاح الدين مُـنبـــعثاً ... فأسـرج الخـيلَ واستسقى بما سَـرَجا

فيضـاً من الغيثِ مَـدَّتْهُ السَّـماءُ بهِ ... فأذْعَنَ السَّـيفُ للحَـقِّ الذي خَـرَجا

يَزينُ " حطـين " فضلاً من شـمائلهِ ... لـمّا أعادَ " لبيت المقـدس " الفَـرَجا

يا " قُدْسُ " أنتِ ويا مهدَ السَّـلامِ ويا أرضَ الرســالاتِ ضاءتْ للأُلى سُرُجا

وَدُرَّةُ الكـونِ والأنـوارُ ما بَهَـتَتْ ... وما دجى الليـلُ إلا زادَهــا وَهَـجا

ومــا ضَلَلْتِ وإنْ ضَلَّتْ مَـراكِبُـنا ... وهائـجُ البحـرِ أعلى مـوجَهُ لُـجَجا

وغافل القـومَ عن خَطْبٍ وعن نُـوَبٍ ... وَجَنَّـدَ الظُّلـمَ إظْـلامـاً طغى ودجا

وشــادَ فيهم وصـالاً دون مرحمـةٍ ... كلٌّ يُغــني على " ليـلاه " مبتـهجا

وعِـزَّةُ النفـسِ صارتْ محضَ أُغْنِيـَةٍ ... تُجَــرِّعُ الحـقَّ من أهــدابِها هَرَجا

تُهـادِنُ الذُّلَ والإذعـانَ في دعةٍ ... فَــلا أثابت ولا لاقت بــذا حَرَجا

فقاسَمَ القومَ صَمْتٌ كُلَّما حَفَـلَتْ ... بِـهِمْ حَياةٌ أَتَـوا " يَبْـغونَـها عِوَجا "

فلا اسـتناروا ولا نارت بهم قِيَـمٌ ... ولا خُـطـاهُمْ رَأَتْ دَربـاً ليُـنْـتَهجا

يا قدسُ صَبراً فإنَّ اللـيلَ مُرتَـحِلٌ ... ولنْ يَضيـقَ بِصَـــبْرٍ أن يرى فَرَجا

وإنَّ للفـجرِ بعـد الليـلِ مَولـدَهُ ... وموعـدُ الفـجرِ للميــلادِ قد وَلَجا

أما آن الأوان ـ شعر



دخلتُ لروضة الأزهـار يوماً

ومـا بي فاض في شـوقٍ كـأني



بذاك الزهــر أغنـية ومنــها

رأيتُ الـروض مزهــواً يغـني



ورحتُ أسائل الأزهار وصلاً


أمد به جســوراً للتـــمني



فقالت لي ، وقد آنستُ عطراً

تمتَّــعْ بالغنــــاء وبالتغني



وشادت لي صروحاً من جمالٍ


تدفَّـقَ بالثــناء وبالتـــثني



فقلتُ لها ، وما أخفيتُ وجداً

أيبدي الحسـنُ ما أخفــاه عني



ومن شابت ملامحُــهُ ، أيلقى

لديك " خطى الشباب المطمئنِّ "؟



لأن الريح مرَّت واسـتُبيحت

بـها الضوضـاء في صوت المغني



وأبقت في منـــازلها خواءً

تعلَّــقَ في الهـواء وعلَّقْتــني



فشــرَّدتُ الرحال إلى بلادٍ

أعـادتــني بلا وطـنٍ ، لأني



بذرتُ الحَبَّ موءوداً ، وكانت

ملوحة طيــنها ما شـجَّـرَتني



فعشـــتُ أفرُّ من طيرٍ لطيرٍ


ومن غصنٍ أفــرُّ لكـل غصنِ



أقيم لها الوصـال ، ولا أراها

تقيم على الوصــال بما رمـتني



به ، والوصـل منبتُ كل حيٍّ


تغذّيــه الحــياة لكي يغـني



فقالت لي : على الحب التقينا


ومـا فات الأوان على التــمني



يخالج ســحره طيب انفعالٍ


ويجذب للصــــبابة كل سنِّ



وتسألني إذا ما اشـتقتُ أمراً


تمادى بالصــدود وبالتـجنـّي



فجئتُ الصبر أحمـلهُ بصبـرٍ

نَـما بين التـوجع والتـــأني



لأسأله ، وقد آنســتُ ناراً

أمـــا آن الأوان لكي نغـني ؟


15 تشرين الأول 2008م

الأربعاء، 16 ديسمبر 2009

ما يُشـبه التـوقيع ـ سيرة



دفتر سجل المواليد

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ



ذات ليلة ..

وكانت من ليالي آذار الذي يمتد من اليوم التاسع والعشرين من آذار لأعوام خلت .. لبيت في قرية تنام على أكتاف الجبال المطلة على مرج ابن عامر .. كان بيتنا وكانت اليامون .. وكانتني .. صارخاً موقظاً الجهات التي تلفعني بأمل حالمٍ لأسرة ثالثها أنا .


تقول الرواية

" لكل شخص من اسمه نصيب "


هذا " الأنا " الذي " عرفته منذ أن تشكل في لغة أرضية .. وأفهمه جيداً كما ينبغي .. وأتعاطى معه لغات القهر والتعب اليومي .. حين يستفزني من ذاكرتي .. أجده يعيدني إلى مرجعية صامتة .. كي نرسم معا خطانا بوضوح .. دون إضاعتها من تحت أقدامنا .. نشأنا وشببنا وحملنا نشيد الياسمين على ضفاف الماء الذي نشتهي .. وقرأنا معاً صدى الصوت عالياً حيث يفيض .. ليستمر بصراخه العفوي .. فتشابكنا في لغة الحلم .. لعلنا نستيقظ على شيء ذات صباح ..
ـ أجده ؟ .. وجدته .
لكنه يفر صباحاً إلى حقول اللوز .. ليعود ـ كعادته ـ الى مرفأ الذاكرة في مساء من لهاث وشجن .. ونواصل البوح .. ليواصل المحراث طريقه .. فنتجدد معاً .. لكي لا نهترئ "
باختصار غير شديد .. حملت اسمي .. وسرت في الاتجاهات التي تعبرني .. فكنت كما أنا الآن .. أحلم بمشهد مغاير لما هو كائن .. وأبحث عن فضاءات أكثر دفئاً ورفقاً بالإنسان .. لعل أطفالاً بلون الفراش .. يصلون إلى الصدور بعد اللحظة المهاجرة ..غير أني لم أزل في غفوتي .. أصارع ما خلفته الريح من بقاياي .. أكتظ بصراخ عفوي .. يهمس لي .. يتورد حين أحضر محفل الأرواح .. فتنكمش أصابعي حين أتدثر ببرد الليل .. وتمد خيوطها في العتمة .. ربما لأن الطريق لم تطل من النافذة بعد .. ربما لأن المسافة التي تتسع .. تقتل الدهشة في الدم .. ربما .. ربما ..

سيرة البداية وتكوين الحرف

كانت البداية في صفحة النهر الذي مر في المكان .. ولم أكن أتوارى من خشية ما .. فتحت يديّ لمجراه .. فعادني كما لو كنت صاحبه في فراش التوجع .. وراقني كما لوكان مشتهاي .. قرأت فيه أناشيد المدرسة .. حيث متعة الانتباه .. توردت وتباهت حين امتدت الى رفوف الكتب الموروثة يداي .. رغم السن المبكرة التي حملتها آنذاك .. قرأت بعض حكايات المنفلوطي وأضع خطاً تحت ( تحت ظلال الزيزفون ) .. وخطين تحت ( الشاعر ) حيث تمنيت لو كان أنا .. هي صورة ملحة يستحم فيها الخيال الصغير .. تماما كما المدينة الفاضلة في رؤية ( ستيفن ) صاحب ( مجدولين ) .. و(ماجدولين ) كانت تقف على بوابة الدار العتيقة .. رسمتُ فيها الشاعر .. وبنيتُ تضاريس مدينتي الفاضلة بين عينيها الواسعتين .. فعرفت لغة العبور المبكر إلى منبع النهر .. ورغم الستة عشر عاماً التي لم أتجاوزها آنذاك .. كنت أغمض عينيّ وأتأمل مدينة فاضلة أبنيها .. وأجعلها مسكناً لكل المعذبين والمشردين في الأرض .. لكنني :

بنيت للشعر أبياتاً مشيدةً ..... وما بنيت به بيتاً من القصبِ

تعرفت إلى وجدان محمود درويش .. وفدوى طوقان وسميح القاسم .. وتوفيق زياد .. لما لهؤلاء من صفة الرمز الذي يتصاعد في أفواه الحاضر القديم آنذاك .. ولكني كنت أقرأ في وجدان الصورة التي كانت .. ولا تزال .. صورة الحاضر القديم المتجدد دائما .. حيث تنام المصابيح على ضفة العتمة .. وحيث السنابل التي تدوسها أقدام الغزاة القادمين من الشاطئ الآخر للبحر .. فعرفت نكهة البوح .. ثم ارتفاع الصوت .. ثم صرخة القصيدة التي خرجت في مخاض الولادة الأولى .. هي البداية التي كانت قبل ميلاد القصيدة .. ذلك أن القصيدة ولدت مع بداية البوح .. ولم تكن بداية الشعر .. ذلك أن الشاعر فيّ كان على قيد الحياة قبل ميلادها .. هناك .. حيث اتهمت نفسي ووجدتها وأنا أتناثر بين يديّ .. وأسألها .. في حضرة النهر .. من أنا ؟ ومن أين تجيء الفراشات إلى حقول الزهر ؟ وكيف أراني والمسافة بيني وبيني ؟ فانتشر السؤال .. وكان لي ضجيجه الملتهب في مقهى الجفون .. عراني ذات مساء .. فدخلتُ عالمه السحري .. ووجدتني أصرخ في وجه امرأة تناثرت على يديها .. ورأتني .. وابتسمت بلا مبالاة .. فرأيت الخيول تتراكض إلى منبع النهر .. فصرت الوارث لرحيق الكتب المزجوجة على رفوف مغبرّة .. وحين تراكضت خطواتي .. رأيتني أمام أساتذتي الذين أماطوا ما تناثر في طريق جدول صغير .. رفدوه بعطائهم المشهود بما تيسر من حضور الماء .. ليكبر .. ويتسع المجرى نحو المصب في النهر . هي البداية .. ووجه المرأة التي تناثرت على يديها .. ورأتني .. وابتسمت بلا مبالاة .. صار وجه حبيبتي الذي ابتسم ملء حدقتين واسعتين .. على مرمى وردة من القلب .. ثم غاب إلى الأبد .. لكل إنسان ـ بلا شك ـ محطات توقّفَ فيها أمام حضرته .. وانطلقَ متابعاً الخطى للمسير .. ويتميز الأديب عن غيره في توظيف هذه المحطات وفق رؤية تنسجم مع كافة المعطيات التي تدثّر بها في مرحلة تأمله تلك .. ولم أكن أملك الخيار حين اقتحَمَت مساحة حياتي عناوين استشرفتُ من خلالها تفاصيلي القادمة .. وكان أبرزها مصادرة الحرية الجسدية في أقبية وزنازين الاحتلال الإسرائيلي عام 1984م ..وقبلها عناوين أخرى ، ساهمت في بلورة الانطباعات .. منها صورة جنود الاحتلال وآلياته وهي تدخل محتلةً بلدتي الصغيرة عام 1967م .. ولم أكن حينذاك أملك سوى عينين استطاعتا رؤية الأزهار التي داستها أقدام الغزاة .. وكنت طفلاً غضاً لا يعرف الوقت ولا المكان .. لكنه يعرف التفاصيل التي تختزنها الذاكرة .. ليعبر منها إلى نشيد قادم يجدده ليصحو من نومة الصغار ..
وتبع ذلك عناوين أخرى .. غربة المكان .. حين تنفست هواءً عربياً آخر في أمكنة لم تكن حيث نشأتُ وترعرعتُ .. ولكن الحنين الآسر يفيض بغربة مؤرقة للذاكرة .. فكان لتلك الفـترة أثرها البالغ على أنفاس القصيدة التي تولد في اشتياق المغترب عن تراب وطنه ..ثم الانتفاضة كعنوان بارز في تخطي حدود التسليم المألوف نحو التمرد في صوت بات يدرك صحة ارتفاعه وتطاول قامته .. وأيضاً .. رحيل الاحتلال .. على اعتبار ذلك .. والاستظلال تحت أجنحة أبناء الوطن .. لتولد مخاضات جديدة النكهة .. تحاور ذاتها وتحاول اجتياز المبهم فيها ..
تلك بعض العناوين لمراحل أثرَت التجربة الحياتية بجانبيها الأدبي والفكري في مسيرة انفلاتي في نفسي .. وكان الأبرز في تلك العناوين ـ ولا شك ـ تجربة السجن ومخاضات الولادة فيه ..


عن سيرة السجن

لم تكن مشاغبة القلم في رسم خطوطه المنتمية للوطن هي السبب الوحيد لاستنشاق رطوبة جدران الزنازين .. بل تعددت الأسباب والسجن واحد .. حيث وجدتني ذات صباح من شجن .. أعرف الطريق إلى الذاكرة .. فالتحقت بركب المارين إلى الشمس .. وحين تعريت بفعل فاعل .. كنت على موعد مع منتصف الليل حين جاءوا لاعتقالي :
دقَّت الساعة يا أمي ،تعالي ودّعينيوانثري صفصاف قلبكْفي ثنيّات يقـيني هاهم الآن أتونييصحبونيحين دقوا باب أحلامي فهاتي وردك الداميوقومي زينيني...


عن سيرة الخطى

الثورة بشكلها المتسع هي صورة أصحاب النفس الطويل في المواصلة للعبور إلى الوطن .. هؤلاء الذين يدركون قيمة الوقت وماهيته حين يتمسكون بنسيج المستقبـل ولا يركنون للنعاس..ذلك أنهم من مواليد الوعد والعمل.. وهم الذين جاءوا من صعوبة اللحظة في زمان الحلم والتحمل ..ومن أصعب الأيام يولد يوم الفرح .. وفي خصوصية الثورة حين تكون لأديب وشاعر .. يقف على جبهتين في آن معا .. جبهة الذات التي تتفجر لغة وعناوين حمراء..تصب في محصلتها في الجبهة الثانية ..حيث يقف بانتظار الوطن الذي يحتويه .. وفي الجبهتين .. لا يكون الأديب كغيره في احتفال العتمة بالضوء .. ذلك أن مساحة الذاكرة تتخذ شكلا متسعاً في العبور نحو الأشياء .. بصمتها .. بعفويتها .. بالجدران التي تحاصرها .. بالأسلاك الشائكة التي تلف المكان .. بالضوء المطعون في ليل يقهقه للزنزانة العفنة .. فتسقط الزنزانة في مستنقعها .. وبيدين داميتين يكسر صلابة الأسلاك الشائكة التي تلف المكان .. يرسم على الجدران صورة الفرح الذي يجيء راكضاً بلا مواعيد .. أزهاراً قابلة للتحول المفاجئ .. فيرتفع الصوت ويسقط صمت المكان .. فتُخرّج الزنازين كفاءات يحفل الوطن بها .. فتدمع عين السجان الذي يسقط بلا وردة ويصاب بداء القهر :
ـ كيف يصنعون ذواتهم المنيرة في هذه العتمة ؟ـ كيف يحرثون ويزرعون بين صدأ السلاسل والصيف المخيم ؟إنهم الذين يدركون صعوبة الطريق الطويل .. فيتوضأون بدمهم للوضوح ..
وفي الخصوصية الأكثر خصوصية .. الشاعر يغادر المكان في إغفاءة عين بتأمل.. يحلّق كطائر أخضر في فسحة المكان .. ويجتاز الشيك والأسوار التي تكتظ بالحراس والبارود ..
عام مضىوتظل تفتتح الرسائل بالحنينِ ،تظل تحلم بالنهارشمس على أوراقك الثكلى تنامُ ،ولا مفر من القصيدة ، لا مفرْفاقرأ نشيدكَ ، لست وحدكَ ،لستَ أول من شدافاصعد ، تخطى " الشيكَ " ، أروقةَ العساكرِ ، وانتشرْأنت المحرَّرُ ، غرفة السجن انتصاركَ ،أنت تحلمُ ،والعساكرُ لا تنام عيونهمأنت المحرَّرُ ،والطريق إلى فضاء الروح واسعة ،على مرمى حجرْفاحلم كما شاءت بلادكَ ،وانتصرْ.. "





عن سيرة الغربة

" الإنسان الذي أحمل حقن ملامح وجهه بالصبر لكيلا يفيض البكاء..وهو يودع أمه ذات صباح غارق بالوجع .. حين شد رحال سفره خارج جغرافياه .. فصرخ الشاعر في داخلي ..
لهفي على عينيك حين بكت ..وقلت : مع السلامة وأنا حقنت ملامحي بالصبر ..قلت : غداً أعود ومضت على ثغري ابتسامة
وفي هجير الغربة .. كان المكان المتسع لا يتسع لمن لا يعرف سوى لغة بلده .. لمن أدرك أن المكان لا يحمل كنه المشتهى .. وأن الزمان توقف على حدود الوطن .. على الرغم من أن الوطن الأكبر هو الحلم الأكبر ..لكن ما هو كائن ينشر الظلال بإكراه.. فصودرت جمالية المكان في حضرة الشاعر الغارق حنيناً وشوقاً عارماً لمشتهاه .. حين تسأله زوجة خاله .. مشيرة إلى جمال أحراش " دبين " .. ألا تشبه هذه الطبيعة بلادنا ؟ .. فيرد :
هذا الجمـال وما يحويه من صورٍ تسبي العيون وتشفي الآه في الكبدِ
للسحر فيه ضروب كيف أدركها والعين في لهف تصبـو إلى بلدي ؟
وحين اكتظ به عطشه .. وعانى من هجير الرمل .. صرخ بملء ألمه ..
أعيدوني إلى وطني إلى واحاته الخضراء ..فالصحراء تحرقني
وحين عاد ..
عاد ..
ولكنه لا يزال يبحث عن وطنه ..

مواطن صالح للاستهلاك ـ شعر


ستين عاماً لم أبُحْ بقصائدي
عني وعن قلبي ،
وما مَلَكَتْ يدي

ـ أَجَبُنْتَ ؟
قالتْ
ـ لا ، ولكنَّ الهوى
أضحى وئيداً تحت نار مواقدي

فَنَـزَفْتُ أحلاماً تراخَتْ في دمٍ
ألقى زنابِقَهُ ،
لقلبٍ مُقْعَدِ

فَقَدَ السبيلَ وأَيْقَظَتْهُ جِهاتُهُ
من بَعدِ نَأْيٍ في الحياةِ ،
ليهتدي

حَمَلَ الحقيقةَ في حشاشِ زاهِدٍ
لكنه ،
لم يلق ذاك الزاهِدِ
إنْ قالَ ، عَبَّأَ قلبَهُ مُتَوَسِّداً
نَـزْفاً تَفَتَّحَ ،
في شماتَةِ حاسِدِ

وإذا اهتدى قَلَبَ الموائِدَ كُلَّها
حتى تمنّى ،
أنَّهُ لم يَهْتَدِ

فانْسَلَّ كالحَمَلِ الوديعِ مُسالِماً
إن جاءَ ذئبٌ ،
قالَ : أهلاً سيّدي

تشرين أول 2009م